تشويه الحديث وتداعياته على الدراسات الحديثية المعاصرة: بين النقد الإبستيمي والانعكاسات المنهجية

بقلم: عبد المتين بن سلمان

تُعدّ الدراسات الحديثية من الركائز الأساسية في البنية المعرفية للعلوم الإسلامية، نظراً لما للحديث النبوي من مكانة مركزية في تشريع الأحكام وتوجيه السلوك وتأسيس المنظومة الأخلاقية في الفكر الإسلامي. فالحديث، بوصفه التجلّي العملي للوحي بعد القرآن الكريم، لا يقتصر على كونه مصدرًا تشريعيًا ثانويًا، بل يُمثل كذلك مرجعية تفسيرية وسياقية لفهم مقاصد النص القرآني، وتجسيد المبادئ الإسلامية في واقع الحياة.

ومن هذا المنطلق، لم يكن اهتمام المسلمين بالحديث مجرد حراك علمي تقليدي، بل جاء انعكاساً لوعي إبستيمي مبكر بأهمية التوثيق والتحقيق، حرصًا على صون السنة النبوية من شوائب الوضع والتحريف، وضماناً لتداولها ضمن إطار من الأصالة والمصداقية. وقد تجلى هذا الحرص في وضع قواعد صارمة لنقد الأسانيد والمتون، وتطوير علوم مستقلة كعلم الجرح والتعديل، وعلوم الرواية والدراية، وعلم علل الحديث وغيرها.

غير أن المسار التاريخي لنقل الحديث لم يكن بمنأى عن التحديات الإبستيمية الكبرى، لا سيما مع ظهور ظاهرة الوضع (الحديث الموضوع) التي شكّلت اختراقاً خطيراً لنسق الرواية، وتحولت إلى أداة دعائية وأداة سياسية وايديولوجية في بعض السياقات. فالحديث الموضوع لا يُعد فقط رواية مختلقة منسوبة زورًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل يُمثل تشويهاً معرفياً يُسهم في تضليل الوعي الديني وتشويه المفاهيم الشرعية، خصوصًا حين يُوظف لأغراض خارج نطاق الرسالة النبوية.

وقد نبّه عدد من العلماء، كأبي ريّة، إلى أن بوادر التلاعب بالرواية بدأت منذ حياة النبي عليه الصلاة والسلام، إلا أن حدّتها بلغت ذروتها في أواخر عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث أدت الاضطرابات السياسية والاجتماعية إلى دخول روايات مدسوسة في جسد الحديث، ما أوجد تحديات هائلة أمام المحدثين في مسار التحقق من صحة النصوص. وقد زادت حدة الأزمة بعد مقتل عثمان ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، إذ أصبحت الرواية أداة من أدوات الصراع السياسي والمذهبي، وتحوّلت من وعاء للنقل إلى ساحة للتوظيف والتأويل الأيديولوجي.

وقد أشار مصطفى السباعي إلى أن الأربعين سنة الأولى من الهجرة تمثل الحد الفاصل بين عصر صفاء الرواية وأصالتها، وبين حقبة التدخل والتحريف التي أنتجت ما عُرف لاحقًا بـ “عصر الوضع”. وتُعد هذه المرحلة مفصلًا تاريخيًا هامًا يُظهر التحوّل في طبيعة تلقي الحديث وتداوله، من مجال تعبّدي خالص إلى مجال تفاعلي يتداخل فيه السياسي والديني والاجتماعي.

من جهة أخرى، فإن التوظيف السياسي للرواية فتح الباب أمام مجموعة من الدراسات الغربية، ولا سيما الاستشراقية، للطعن في أصالة الحديث النبوي، والشك في مدى صدقيته كمصدر تشريعي. وقد برز في هذا السياق عدد من المستشرقين أمثال غوستاف فايل، وألويس شبرنجر، وإغناتس غولدزيهر، وجوزيف شاخت، حيث تبنّوا مقاربات نقدية ترى أن معظم الأحاديث النبوية ليست سوى انعكاسات تاريخية لصراعات سياسية ومذهبية ظهرت في مراحل متأخرة بعد وفاة النبي.

وقد اعتمد هؤلاء على فرضيات إبستيمية تنطلق من كون النقل الشفهي الطويل عُرضة للتشويه، وأن غياب التدوين المبكر جعل الحديث أداة طيعة للتأويل والتحريف. وذهب غولدزيهر، على سبيل المثال، إلى القول بعدم وجود حديث واحد يمكن الجزم بأنه من كلام النبي، معتبراً أن مجمل الروايات هي نتاج لتطور الفكر الإسلامي وتغير السياقات السياسية والاجتماعية.

إن هذه الأطروحات، وإن كانت محل جدل واسع في الأوساط الإسلامية، فإنها كشفت عن ضرورة تطوير مقاربة نقدية أكثر شمولاً لدراسة الحديث، مقاربة تتجاوز الانبهار بالنقد الخارجي، لتستثمر في أدوات النقد الداخلي التي أسّسها علماء الحديث منذ القرون الأولى. فالإشكال لا يكمن في مجرد الطعن في الحديث، بل في غياب التفاعل النقدي البنّاء الذي يجمع بين مراعاة المقتضيات العلمية والوعي بالسياقات التاريخية والسياسية.

لذا، فإن دراسة الحديث في السياق المعاصر لا يمكن أن تنفصل عن هذه المداخل الإبستيمية والمنهجية، كما لا يمكن أن تُختزل في الدفاع التقليدي أو النقد العدمي، بل تتطلب قراءة تركيبية تُعيد الاعتبار للحديث النبوي ضمن منظومة معرفية متكاملة، تحفظ أصالته وتراعي شروطه التاريخية، وتُفعّل أدوات التحقق والتمييز بين الصحيح والمصنوع، بما يضمن إعادة إنتاج المعرفة الحديثية على أسس علمية راسخة وقابلة للتجديد